الشرق تريبيون- متابعات
51 ساعة كاملة، ظل العالم في حالة جهل تام. لم يكن أحد يدرك أن زعيمًا غامضًا يحكم واحدة من أكثر دول العالم انغلاقًا فارق الحياة، فيما كانت كوريا الشمالية تدير واحدًا من أكثر الانتقالات السياسية سرية في التاريخ الحديث. حينها أحيط نبأ وفاة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج إيل بتكتم غير مسبوق، لدرجة أن قلة قليلة خارج النخبة الحاكمة كانت تشك في أن حدثًا جللًا قد وقع.
لم يعرف الكوريون الشماليون بوفاة قائدهم إلا بعد يومين، حين تلقوا أوامر بالإنصات إلى بث خاص ظهرت خلاله مذيعة الأخبار الأشهر، ري تشون هي، المعروفة بلقب "السيدة الوردية" بسبب ارتدائها الدائم للهـانبوك الوردي، على شاشة التلفزيون بملابس سوداء، حينها فقط أدرك المشاهدون أن أمرًا جللًا قد حدث. وبصوت اختنق بالبكاء، أعلنت وفاة "القائد العزيز"، في مشهد لا يزال محفورًا في الذاكرة الجمعية للكوريين الشماليين. وقد أظهرت لقطات مصورة آنذاك مشاهد هستيرية للحزن، حيث بكى المواطنون علنًا، وضربوا صدورهم، وألقوا بأنفسهم على الأرض في تعبير عن الفاجعة.
ومنذ 14 عامًا، وبالتحديد في السابع عشر من ديسمبر 2011، كان كيم جونج إيل على متن قطاره المدرع، وسيلة تنقله المفضلة بسبب كراهيته للطيران. ووفق الرواية الرسمية، تعرّض لأزمة قلبية حادة نتيجة "إجهاد عقلي وجسدي شديد" أثناء قيامه بجولة لتقديم "إرشادات ميدانية". ليرحل بعدها "كيم" عن عمر ناهز 70 عامًا، ويعلن لاحقا "الأمين العام الأبدي" لحزب العمال الكوري، في خطوة عززت الطابع الأسطوري للقيادة في الدولة الشيوعية المنعزلة.
خليفة تحت الاختبار
كان لدى النخبة الحاكمة في بيونج يانج ما يكفي من الأسباب لإبقاء خبر الوفاة سرًا محكمًا. فالمنصب الأقوى في البلاد أصبح شاغرًا، ورغم أن كيم جونج أون، الابن الأصغر، كان قد جرى اختياره وريثًا، فإنه لم يكن قد ترك بعد أي بصمة تُذكر على المسرح الدولي.
وتصف الصحفية آنا فيفيلد في كتابها "الخليفة العظيم"، حجم الضغط الذي واجهه كيم جونج أون، الذي لم يكن يتجاوز 27 عامًا آنذاك، وهو يجد نفسه فجأة على رأس دولة شمولية صاغت عائلته ملامحها لعقود، مشيرة إلى أن العام الأول من حكمه كان مصيريًا، إما لترسيخ قبضة العائلة على السلطة، أو لانهيار النظام من الداخل.
وتوضح "فيفيلد" أن الزعيم الشاب كان أمام أولويتين أساسيتين؛ تثبيت سلطته في مواجهة نخبة سياسية وعسكرية تفوقه عمرًا وخبرة، وإحكام السيطرة على مجتمع كامل، في ظل ترقب دولي كان يأمل في فشله أكثر مما كان ينتظر نجاحه.
في الواقع، كانت الأنظار تتجه إلى كيم الأصغر منذ عام 2008، عندما أصيب والده بجلطة دماغية أثرت على حركته. ومنذ ذلك الحين، بدأت ترتيبات الخلافة، وسط استعداد واضح لإقصاء أي منافس محتمل، وضمان انتقال سلس للسلطة قبل انكشاف حقيقة وفاة الأب.
حافة القلق
في حين أظهرت كوريا الشمالية مشاهد وحدة والتفاف حول الزعيم الجديد، خيّم القلق على العواصم الإقليمية والدولية. فكيم جونج إيل، الذي حكم البلاد رسميًا منذ عام 1997، كان يُنظر إليه خارجيًا كحاكم بارع في المناورة السياسية، فيما ارتبط اسمه داخليًا بالقمع وسوء الإدارة الاقتصادية، التي قادت إلى مجاعة مدمرة في التسعينيات أودت بحياة ما يقدر بنحو ثلاثة ملايين شخص.
وأدى إعلان وفاته إلى رفع حالة التأهب في اليابان وكوريا الجنوبية، حيث وضعت الجيوش في حالة استنفار قصوى، وشكّلت طوكيو فريق استجابة للطوارئ تحسبًا لأي تطورات مفاجئة. وكان القلق مضاعفًا بسبب افتقار كيم جونج أون للخبرة السياسية، في وقت ورث فيه ترسانة نووية عمل والده لسنوات على بنائها، باعتبارها الضمانة القصوى لبقاء النظام.
ووصل الأمر إلى حد أستراليا، إذ دعا وزير الخارجية آنذاك كيفن رود إلى التزام الهدوء، محذرًا من أن الغموض سيظل سيد الموقف في الأيام التي تلت الوفاة، ومشيرًا إلى صعوبة التنبؤ بمستقبل القيادة في دولة تتسم بسرية شديدة.
ورأى "رود" أن وفاة كيم جونج إيل قد تفتح نافذة جديدة أمام كوريا الشمالية للتفاعل مع المجتمع الدولي. غير أن السنوات الأربع عشرة التي أعقبت ذلك الانتقال أظهرت أن تلك النافذة لا تزال موصدة، وأن العالم لا يزال ينتظر تحولًا لم يأت بعد.